ردّاً على جعفر الحسيني: كيمياء الاستعمار ونرجسية طوائف المشرق


يكمن أحد أهم منجزات «طوفان الأقصى» في أنه فعّل الحجم والدور الحقيقيين لفلسطين في المجال السياسي العربي. ففلسطين، كقضية استعمارية بأسسها العربية، القومية والحضارية، وخزّانها التاريخي، جعلت لها حيثية خاصة وأحكاماً هوياتية وأيديولوجية محددة. بمعنى: يستحيل إنتاج هوية سياسية في حيّز خارج فلسطين (معنوياً لا جغرافياً) تقوم من ثم بمحاولة احتواء القضية الفلسطينية تحت مظلتها لتكون جزءاً من التكوين السياسي لهذه الهوية. إذ إن القضية الفلسطينية، في حجمها ونوعها الكبيرين، تفرض على أي انتماء الذوبان والخضوع لأحكام الصراع ضد الصهيونية بما يقتضيه من وحدة عربية وإسلامية ونهاية للذات الهوياتية، سواء للحدود الوطنية أو الذوات المذهبية.


كانت هذه الخلاصة، وعلى المستوى الشخصي، الإجابة النظرية التي كنت أقدّمها لمسألة انفجار وصراع الهويات المذهبية في المشرق، منذ احتلال العراق بالحد الأدنى؛ وهي أن عملية الانخراط في الصراع مع العدو الصهيوني - والاستعمار بشكل عام - هي العملية التاريخية للتصويب الأيديولوجي الذاتي الذي سيؤول إلى ذوبان هذه الهويات المتصارعة واستيلاد الهوية الحضارية للأمّة العربية، ولا أزال متمسّكاً بذلك وخصوصاً مع شواهد «الطوفان».


حتّمت هذه الحيثية للقضية الفلسطينية أن تكون كيمياء الاستعمار في الوطن العربي، خلال الربع الأول للقرن الواحد والعشرين، قائمة على المركّبات المذهبية بين الكتلتين المتخيلتين للهويتين الشيعية والسنية؛ نرجسيتان غيورتان من بعضهما، محض وجودهما هو تعبير عن مرض كبير عضال في جسد الوطن العربي.
ولعلنا نلاحظ أن هذه الكيمياء تفشل حكماً في الحيّز الفلسطيني، بل إن إحدى أكبر أزمات الفلسطيني المتمحور حول هوية سنّية هي أن وجود الاحتلال جاثماً عليه لا يمكّنه من ممارسة «سنّيته» كباقي العرب، حيث يحكم عليه الصراع مع «اليهود» قبل النقيض الشيعي. ومن الخارج، ترى الهوية السنّية لا تشمل فلسطين، رغم انتماء أغلب الفلسطينيين العقدي للفقه الإسلامي لمدارس أهل السنّة والجماعة.


من جهة أخرى، كان العربي المتمحور حول هوية شيعية يواجه بدوره أزمته، فقد وضعه تضافر بين الفكرة الخمينية مع وجود تماس للهوية الشيعية مع حدود فلسطين في لبنان، في مواجهة مع الصهيونية، بشكل خدم لفترة طويلة رافعة تسويقية للمذهب الأصغر، وتمايزاً يغذّي الغرور والنرجسية المذهبية مقارنة وتنابزاً مع النقيض السني ولا يذيبه.
هنا كانت لحظة «الطوفان» لحظة فرصة حقيقية للنرجسيّتين أن تذوبا، وتنتهيا. إلا أن السنّية لم تذب، بل انتظرت، على التوقيت الإسرائيلي، حملتَها لإعادة الروح في ذاتها المجروحة لـ«استعادة» سوريا. وأمّا الشيعيّة، فلعلّ مقال الكاتب العراقي جعفر الحسيني (بعنوان «بعد سوريا... شكراً إيران انتهت المهمة!»، «الأخبار» الجمعة 10 كانون الثاني 2025)، نطقٌ مكتوب لنرجسية الهوية الشيعية المجروحة في المشرق، وهي العدسة التي يجب قراءة النص عبرها، فالنص هو لسان هذه الهوية في مناحة فاضحة.
يقوم المقال بعرض سردية هذه الهوية المتخيّلة، من صعودها بطابعها المعادي للاستعمار ودمج تكوين النضال الفلسطيني مع صعود الجمهورية الإسلامية في إيران، ومن ثم «خسارتها» لسوريا. والمثير للاهتمام أن يضع الكاتب «العامل الطائفي» (لا الديني أو القومي أو غيرهما) كـ«متسيّد» للمنطقة، واضعاً تقسيماً كبيراً للمنطقة (بتعبيراته): «إيران والشيعة والقليل من السنّة وقفوا مع محور المقاومة، وغالبية عربية وإسلامية اختارت بعض حكوماتها الوقوف مع إسرائيل واختارت غالبية شعوبها الوقوف على الحياد وهي تردّد: اللهم اشغل الظالمين بالظالمين».


وما يثير الاهتمام هنا هو التقسيم الكبير للمنطقة على كتل هويات مذهبية صمّاء، وهي حرفة استشراقية واستعمارية، فهذه كيمياؤهم. إن هذا التصور والتقسيم منتشر، ولندع اختزاليته جانباً، والتي علينا إدراجها في إطار الجهل في أقل معايير التحليل الاجتماعي والسياسي للمنطقة العربية. ففي الأخير، لنتذكّر أن المقال هو الهوية الشيعية ناطقةً، ولكي توجد كهوية مذهبية ما، ما عليها إلا أن ترى العالم على شكل مذاهب لتموضع نفسها فيه، فهذا التصوير للمنطقة تجده لدى المتمحورين على هوياتهم الشيعية والسنّية على حد سواء، وطبعاً الغزاة الصهاينة المتمحورين حول يهوديتهم.


يكمل الكاتب محاولاً إلحاق المقاومة الفلسطينية، عبر حركة حماس، في تجاذبات المذاهب. ولأن الهوية الشيعية نفسياً في صدمة، تعاني من الدرامية والمأسوية، فقد حسمت «تبدّلاً ما» في حماس بما يخالف منهجية «طوفان الأقصى». والشاهد على ذلك أنه مع احتدام «الطوفان» في بيت حانون وجباليا وفي صنعاء وفي جنين، يجرؤ الكاتب، بالدرامية ذاتها، على حسم انتهاء الطوفان «إلى ما انتهى إليه». ومرة أخرى، هذه الهوية النرجسية الشيعية ناطقةً، بالنسبة إليها، قد انتهى «الطوفان» مع الهدنة في لبنان وانكفاء الفصائل العراقية، وهي نهاية تريد هذه الهوية أن تبني عليها مستقبلها. فكما يقول الكاتب، لقد جُرّت هذه الهوية إلى معركة في فلسطين خسرت فيها «الفرص التي حصلت عليها بسقوط صدام» بتعبيره (أي فرصة الاستعمار الأميركي)، واليوم ستكون هذه الهوية وحدها على عداء مع الغرب وأميركا، بينما العالم العربي السنّي - بتعبيره - يتحالف مع الغرب وينفض يده من فلسطين، وهنا عليها الانسحاب بدورها ونفض يدها من فلسطين، فقد أعطت القضية ما تستطيع، على حد تعبيره، ولنسلّم الراية لتركيا والجهاديين العرب فهم «أولى» بالقضية، وأن تترك فلسطين لأهلها والعرب وإشكالاتهم.


وهنا ملاحظة لطيفة أخرى مثيرة للاهتمام؛ أن العرب المتمحورين حول هوية شيعية يتذبذبون في عروبتهم، فأحياناً هم عرب وأحياناً أخرى الآخر العربي هو الآخر السنّي، فتأتي فكرة الانسحاب وتسليم الراية، ففي عالم الكتل المذهبية، يخال للمذهبي أن عروبته تنتهي وأن له ترف الانسحاب، وأن الصهيونية ليست خطراً على الجميع، في بديهيات كرّرها القائد الشهيد نصر الله.
على كل، الأهم هنا هو آخر جملة في المقال، أن على إيران (اقرأ: الهوية السياسية الشيعية) «أن تلتفت إلى أمورها وأنها قاتلت في بيئة لا تحبها أو تثق بها». وهذه الجملة هي شاهد العلاقة التسويقية لهذه الهوية المذهبية مع فلسطين، بدرامية مثيرة للسخرية والشفقة في آن (إنهم لا يحبوننا)، والمفارقة تنكّر الكاتب للتكليف الديني تجاه فلسطين الذي اقتبسه الكاتب للشهيد مطهري بداية المقال.


هذه النهاية الدرامية تعيدنا للبدء، وللجد لا هزل المذاهب، إذ اليوم، مع الصمود الأسطوري حتى فرض المقاومة الفلسطينية وقف النار على العدو، ومع صعود قوّة للجمهورية اليمنية، نحن أمام مرحلة جديدة وصعبة لصراع مستمر ووجودي علينا جميعاً، بل أثبتت الإبادة الجماعية للتحالف الغربي أنها مهمة نحملها نيابة عن الإنسانية جمعاء، نيابة عن أصل فكرة حرمة الحياة البشرية وحرية الإنسان. بل إن عنوان المرحلة القادمة هو أزمة صهيونية في عالميتها وفي داخل المستعمرة نفسها وتناقضاتها الداخلية، وخطر على الضفة علينا كلنا التركيز عليه. وهذا ما يوجبه علينا «الطوفان» بشهدائه جميعاً على طريق القدس، في كل الجبهات، أن علينا إنهاء نرجسيات طوائف المشرق، حيث أتفق مع الكاتب أن هنالك من انتهت مهمتهم، وهم المذهبيون، أمّا المقاومة... فهي مستمرة.

* كاتب عربي

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي